فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، وقالوا: لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، وأيضًا لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون: المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أنه تقييد للمطلق.
والثاني: أنه على هذا التقييد تصير الآية بيانًا للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله.
الثالث: أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلًا على كمال قدرته وعلو مرتبته، والله أعلم. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال:

فإن قيل: إن قوله تعالى: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام، قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس، حيث قال: {فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [ص: 79 81] إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفًا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا}؟.
والجواب: أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة. اهـ.

.سؤال:

فإن قيل: المفهوم من قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} هو المفهوم من قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فما الفائدة في التكرير؟ وأيضًا قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} كلام كلي، وقوله بعد ذلك: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة، وقوله بعد ذلك: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} إعادة لذلك الكلي، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركًا.
والجواب: أن قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرًا. اهـ.

.أسئلة وأجوبة للفخر:

قال الفخر:
أما قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} ففيه سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى قال في أول الآية: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال: {وآتينا عيسى بن مريم البينات} فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى؟.
والجواب: أن قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} أهيب وأكثر وقعًا من أن يقال منهم من كلمنا، ولذلك قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة.
وأما قوله: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} فإنما اختار لفظ المخاطبة، لأن الضمير في قوله: {وَآتَيْنَا} ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.
السؤال الثاني: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما؟.
والجواب: سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضًا فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.
السؤال الثالث: تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلتم: إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى؟ فنقول: إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة.
الجواب: المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.
السؤال الرابع: البينات جمع قلة، وذلك لا يليق بهذا المقام.
قلنا: لا نسلم أنه جمع قلة، والله أعلم. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: فما الفائدة في التكرير؟

قلنا: قال الواحدي رحمه الله تعالى: إنما كرره تأكيدًا للكلام وتكذيبًا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قوله جلّ ذكره: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَاَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ}.
جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا في خصائص التفضيل، لكل واحدٍ منهم أنوار، ولأنوارهم مطارح، فمنهم من هو أعلى نورا، وأتم من الرفعة وفورًا. فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حُكْمٌ بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم.
قوله جلّ ذكره: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّن آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
ولكنهم مُصَرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدُّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة. اهـ.

.قال الثعلبي:

عن الحرث الأعور قال: قام رجل إلى عليّ رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم لا تسلكه.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: بحر عميق لا تلجه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: سرّ الله قد خفي عليك فلا تفشه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال عليّ: أيُّها السائل إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت؟.
فقال: كما شاء.
قال: فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟.
قال: كما شاء.
قال: أيّها السائل ألك مع الله مشيئة أو فوق الله مشيئة أو دون الله مشيئة؟
فإن زعمت أن لك دون الله مشيئة فقد اكتفيت عن مشيئة الله، وإن زعمت أنّ لك فوق الله مشيئة فقد زعمت أن مشيئتك غالبة على مشيئة الله، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة فقد ادعيت الشركة، ألست تسأل ربّك العافية؟
قال: بلى.
قال: فمن أي شيء تسأله، أمن البلاء الذي ابتلاك به، أم من البلاء الذي ابتلاك به غيره؟.
قال: من البلاء الذي ابتلاني به.
قال: ألست تقول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله؟
قال: بلى.
قال: فتعلّم تفسيرها؟
قال: لا، علّمني يا أمير المؤمنين مما علمك الله.
قال: تفسيرها: أن العبد لا يقدر على طاعة الله ولا يكون له قوّة على معصية الله في الأمرين جميعًا إلاّ بالله، أيّها السائل إن الله عزّ وجلّ يصح ويداوي، منه الداء ومنه الدواء أعقلت عن الله أمره.
قال: نعم.
قال علي رضي الله عنه: الآن أسلم أخوكم قوموا فصافحوه.
ثم قال: لو وجدت رجلًا من القدرية لأخذت برقبته فلا أزال أطأ عنقه حتى أكسرها فإنّهم يهود هذه الأمّة ونصاراها ومجوسها.
وقال المزني: سمعت الشافعي يقول:
وما شئتَ كانَ وإن لم أشأ ** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله، لا لفظه، لقربه، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله، ورفع الله، فكان يقرب التكرار، فكان الإضمار أحسن.
وفي الجملتين: المفضل منهم لا معين بالاسم، لكن يعين الأول صلة الموصول، لأنها معلومة عند السامع، ويعين الثاني ما أخبر به عنه، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الالتفات، إذ قبله غائب، وكل هذا يدل على التوسع في أفانين البلاغة وأساليب الفصاحة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ورفع بعضهم درجات} يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحدًا من الرسل معيّنًا لا طائفة، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد: لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملًا، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارًا مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} [الأنعام: 165].
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد:
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَها ** أوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسسِ حِمَامُها

أراد نفسه، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب:
إذا كان بعضُ النّاس سيفًا لِدَوْلَةٍ ** ففي النّاسِ بُوقات لها وطُبُول

والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة:
إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّني ** عُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ

وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم وكيلًا وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 54، 55] عَقب قوله: {وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورا} إلى أن قال: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} إلى قوله: {ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 45، 55].
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول: ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم، وفي تمييز صفات التفاضل غموض، وتطرق لتوقّع الخطأ وعروض، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطأ.
فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع، ومَنْ إليه التفضيل، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.
وهذا مورد الحديث الصحيح: «لا تُفضّلوا بين الأنبياء» يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلًا.
وقد ثبت أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه.
وهي متقارنة الدلالة تنصيصًا وظهورًا.
إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملًا بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع.
وأعظمها آية: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه} [آل عمران: 81] الآية.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى» يعني بقوله: أنا نفسه على أرجح الاحتمالين، وقوله: «لا تُفَضِّلوني على مُوسَى» فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده.
وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها: عمومَ الرسالة لكافة الناس، ودوامَها طُولَ الدهر، وختمها للرسالات، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة، وبدوام تلك المعجزة، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال، وبتيسير إدانة معانديه له، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير، وبجعل نقل معجزته متواترًا لا يجهلها إلاّ مُكابر، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم.
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع، ممّا قبلها، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام. اهـ.